كان ذلك اليوم عيد ميلادها السادس و الثلاثين .
نظرت للساعة الكبيرة المعلّقة على الحائط أمامها، ورأت أنها كعادتها وصلت العمل في تمام السابعة والنصف قبل الجميع. كان يريحها أن تصل المكتب وهو لا يزال خاليا، فوجود الآخرين حولها لطالما أشعرها بالتوتر . هي لم تعلم كيف تتواصل مع الآخرين بطبيعية وسلاسة، وشعرت أنها تثير دائما استغرابهم وانتقادهم.
طبيبها أطلق على ما تعاني منه اسم “التوحد” ، لكنه قام بطمأنتها بأنها تعاني من نوع خفيف منه لا يجب أن يحرمها من عيش حياة طبيعية. كانت تعلم ما هي الحياة الطبيعية، فهي ترى الجميع حولها يعيشها: عائلة، أصدقاء، عمل، أطفال، سباق مع الزمن وبحث دائم عن الاكتفاء. لكنها لم تشعر بأنها تملك القدرة ولا الرغبة لتعيش هذه الحياة الطبيعية، لهذا حافظت في السنوات العشر الأخيرة على نفس العمل ونفس الروتين. في المكتب الذي تعمل فيه هي تهتم بالترتيب والنظافة وتحضر القهوة للمحامين الخمسة الشبان الذين يتشاركون العمل. لقد حفظت كل متطلبات عملها وقامت بها على أكمل وجه، حتى أنها باتت تحضر القهوة لكل محام بالطريقة التي يحبها.
هي لم تكن ذكية كرؤسائها في العمل، ولم تكن تستطيع أن تمتلك عملا قيما مثل عملهم . هي لم تكن جميلة كي تجذب الأنظار والإعجاب كعارضات الأزياء على اللافتات التي كانت تراها في طريقها للمنزل. كانت شخصاً وحيدا قد تبدو حياته فارغة وغير قيمة، لكنها عاشت حياتها بعنفوان وصبر.
حياتها كانت بسيطة وقصيرة. ففي مساء عيد ميلادها الذي لم يعلم به أحد دهستها سيارة وقتلتها.
لم يأت أحد في اليوم التالي باكرا ليشعل الضوء في المكتب ويفتح نوافذه لدخول هواء الصباح المنعش. وحين وصل المحامون شعروا بالغرابة، فخلال عشر سنوات من عملها لم تتخلف يوما عن عملها. هم لم يجدوا حتى رقم هاتفها في الأوراق القديمة ، ولا عنوان بيتها أو أي معلومة شخصية عنها. فجأة تبادر لذهنهم أنهم لم يهتموا لأي معلومة شخصية تتعلق بحياة عاملة النظافة الهادئة واللطيفة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من مكتبهم ونظام عملهم. الخوف والألم ملأا قلوبهم، وعلموا بحجم المأساة حين اتصلوا بالشرطة التي أخبرتهم بالفاجعة.
فقط بعد اختفائها عن الوجود انتبهوا لوجودها. وفقط بعد أن فارقت الحياة علموا من كانت.
كانت من الأشخاص “الغير مرئيين” الذين يملؤون العالم، لكننا لا نراهم. نحن لا ننظر نحوهم وكأن وجودهم بديهيا ولا قيمة كبيرة له. نحن لا نرغب بالتقرب منهم أو السؤال عنهم أو مصادقتهم أو حتى إظهار أي بادرة إنسانية نحوهم، ففي صراعنا اليومي نحو ما نظن أنه “تحقيق الذات” وجشعنا في امتلاك كل ما يمكن امتلاكه وسعينا لإظهار أنفسنا سعداء وجميلين ونتربع على قمة السلم الاجتماعي- فقدنا أهم خصلة فينا: إنسانيتنا.
علينا أن نسعى لاستعادة إنسانيتنا، لأنه إن لم نفعل هذا لن يمر وقت طويل قبل أن نصبح جميعنا أشباحا “غير مرئيين”.
بسمة
أخصائية نفسية
للمزيد من مقالات علم النفس إقرأوا باقي مواضيع المدونة وتابعوني في صفحة الفيسبوك.
مناقشة
لا توجد تعليقات حتى الآن.