أنت تقرأ...
اقتباسات وخواطر

جدتي نومتني مغناطيسيا وكانت مرشدتي الأولى في علم النفس

“جدتي رأسي يؤلمني، لا أشعر أنني بخير”

كانت هذه الجملة كفيلة بايقاظ غريزة الأمومة والرعاية عندها، لتقول لي “تعالي ارقيلك”.

كنت أجلس بجانبها، وكلي ثقة بقدرتها على علاجي ومساعدتي. عليَّ أن أعترف أنني لم أكن دائما عند لجوئي اليها مريضة جسدياً، وأحياناً كنت مجرد طفلة حزينة أحتاج فقط أن أكون بقربها وأن أحصل على رعايتها.

لا أعلم ماذا كان المحتوى الكلامي لرقوة جدتي، ولست واثقة من أساساتها الدينية أو التاريخية. أعلم فقط الفكرة من ورائها، وهي أن عاطفة الأخر تجاهك لها قوة تأثير فعلية وفوق طبيعية على صحتك. الفكرة الأساسية أن العلاقات السلبية كفيلة بأن تسبب المرض والمعاناة، وهي فكرة أستطيع ان افهم منطقيتها بدون اللجوء للفكر الماورائي أو الاقتناع به. هذه “العين” المؤذية والمخيفة، التي ربما يعود تاريخها الى عين “رَع” اله الشمس الفرعوني الذي أرسل عينه متمثلة بالالهة سخمت لمعاقبة البشر، واستمرت عبر التاريخ لتعبر عن قلق البشر وخوفهم من الأذى والملاحقة.

كانت جدتي تضع يدها على رأسي وتبدأ بالتمتمة وهي مغمضة العينين. كنت أشعر بحرارة يدها على رأسي وأسمع صوت تمتمتها، ثم أغمض عيني وأشعر باسترخاء جميل، وكأنني في عالم أخر. يهب النسيم البارد من ناحية البيدر ليأخذ تمتماتها بعيداً، ويتحول الوجود إلى فراغ لذيذ لا شيء فيه سوى أنا وهي. أمام تفاني جدتي في دورها كمعالجة كنت أستسلم لعملية العلاج والشفاء. بعد وقت قصير تبدأ جدتي بالتثاؤب، وفي داخلي أتنفس الصعداء لأن تثاؤبها يعني أنها خلصتني مما كان يسبب معاناتي. تفتح جدتي عينيها وتقول لي “كان عليكي عين وراحت”. لم أكن أفهم معنى ما قالته، كنت أعلم فقط أنني شفيت وأشعر بالتحسن الفوري.

ربما كانت التجربة العلاجية التي عشتها في طفولتي مع جدتي هي الأساس والبداية لشغفي بعلم النفس. اكتشفت مع جدتي كيف يمكن لعلاقة الثقة أن تشفي، وكيف يمكن أن تؤثر”فكرة” على النفس والجسد. دخلتُ العالم الأكاديمي مع رغبة وشغف ببحث خبايا النفس، وحاولت خلال السنوات الطويلة من التعليم والاختصاص والعمل العلاجي أن أجد الأساس العلمي والفكري لما قامت به جدتي بحكمتها المتوارثة عبر الأجيال.

لا أعتقد أن شخصاً غريباً كان قادراً على مساعدتي مكان جدتي أو كان يمكنه الوصول الى نفس النتيجة العلاجية. الثقة والأمان هما الأساس الأول لأي علاقة مساعدة وعلاج. وأنا كمعالجة أعلم اليوم أن العلاج لا يأتي بأي نتيجة قبل بناء علاقة ثقة وأمان. مع جدتي شعرت أنها تملك الحكمة وقدرة المساعدة، وأنها لا يمكن أن تسبب لي الأذى. جدتي لم تقل لي يوماً أنني غير صادقة أو أنني أتظاهر بالمعاناة أو أنه ليس لدي سبب لأشعر بالسوء. تقبُّلها كان كاملاً، ولم تشكك أبدا بمشاعري أو عاطفتي. جدتي الطيبة أعطتني الشرعية وجعلتني واثقة أن معاناتي مؤقتة ولها علاج. تعلمت منها أسس العلاقة العلاجية، ومع أنني لا أستعمل مع المتعالجين “الرقوة” ولا التنويم المغناطيسي وأذهب معهم لرحلة فكرية وعاطفية كلامية، لكنني لا أتنازل أبدا عن الأسس العلاجية التي تعلمتها من جدتي.

في مرحلة مبكرة من سنوات العشرين من عمري عندما بدأت تعليمي الأكاديمي في المدينة، وتعرفت على أسس البحث العلمي، بدأت اتمرد على الفكر التقليدي واقتنعت بالافكار العلمية وبضرورة الحرية الفكرية. لم أتغير اليوم بالنسبة لحبي واحترامي للعلم والحرية الفكرية، لكنني مع نضوجي بدأت باكتشاف استناد العلم على حكمة كبيرة متوارثة عبر الأجيال. مثلا، أمي وجدتي تعلمتا أنه يجب تحميص السمسم قليلا قبل وضعه على خلطة الزعتر، لاكتشف لاحقا بأحد المقالات الغذائية أهمية تحميص السمسم ليستطيع الجسد امتصاص قيمته الغذائية. مثال أخر هو التركيبة المثالية لوصفة “المجدرة”، التي جمعت الحبوب مع البقوليات لينتج عنها كمية بروتينات متنوعة وشاملة. أبي يمشي في الحقل ويعرف بشكل دقيق أي النباتات يمكن استهلاكها وأي فطر يعدُّ ساماً. يبدو أن الحكمة المتوارثة عبل الأجيال لم تتمركز فقط حول التغذية وصراع البقاء، بل اكتَشَفت أهمية العلاج النفسي والعلاقة بين النفس والجسد.

شكرا لك جدتي (نجيبة، “أُم سعد”) على حبك الكبير وعاطفتك التي لا تقدر بثمن، وشكراً لكِ على توريثي لجزء من حكمتك. فقدتك منذ سنوات طويلة ولكنك لا زلتِ تعيشين في نفسي وفكري، وأعدك أن تبقى حكمتك متوارثة عبر الأجيال.

بسمة سعد

أخصائية نفسية علاجية

About Basma Saad

Clinical psychologist and artist

مناقشة

لا توجد تعليقات حتى الآن.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

اضغط هنا لكي تتسجل للموقع وتحصل على المقالات الجديده مباشرةً لبريدك الالكتروني

انضم مع 91 مشترك

مرحباً

هنا في مدونتي الخاصة أكتب عن الصحة النفسية، ما يدعمها وما يعيقها. أحيانا أكتب من وجهة نظر مهنية، وفي أحيان أخرى أشارك في أفكار واراء شخصية. أعتبر مدونتي مساحتي الخاصة التي تمنحني كامل الحرية الفكرية. اسمي بسمة، وأنا أخصائية نفسية علاجية مع خبرة سنوات طويلة في التشخيص والعلاج النفسي. بالاضافة الى ذلك يشغل الفن والرسم حيزا كبيرا في عالمي النفسي والفكري، وأنا أرسم في الألوان المائية.
%d مدونون معجبون بهذه: