أنت تقرأ...
أنا ونفسي

التقدم بالعمر والتدهور العقلي- ما الذي يحصل للحالة النفسية حين يتدهور عمل الدماغ؟ وما هو دور العلاج النفسي؟

الشخصية أو النفس ، في أساسها، هي نتيجة عمل الدماغ.

قد يؤدي تلف أنسجة الدماغ إلى تغييرات كبيرة في إحساس الشخص بذاته وهويته  ، مما يتسبب في شعور أسرته وأحباءه بأنه  لم يعد  الشخص ذاته. الشخص المصاب وعائلته قد يعيشون ألماً كبيراً، وتتميز مشاعرهم بالبلبلة والقلق والعجز. العائلة تجد صعوبة كبيرة في فهم سلوكيات الشخص المصاب التي لم يعتادوها من قبل، والشخص المصاب بدوره يتألم من جراء تدهور كبير في آداءه العقلي والنفسي والحياتي.

التلف في أنسجة الدماغ قد ينتج عن حالتين: إصابة دماغية أو تدهور عقلي (Dementia). في هذا المقال سوف أتحدث عن الحالة النفسية في حالة التدهور العقلي الذي يحصل غالباً في الشيخوخة او نتيجة أمراض مستعصية تسببت بتدهور في صحة الدماغ. على الرغم من الفكرة الشائعة بأن التدهور العقلي “غير قابل للعلاج النفسي”، لكن العلاج النفسي السايكودينامي قد يكون بمثابة الجزيرة الصغيرة التي يرتاح فيها الشخص المصاب، في محيط هائج من العاطفة القوية والألم الكبير.

يحافظ الأشخاص المصابون بالتدهور العقلي على الإحساس بمن هم حتى وقت متأخر نسبيًا من مسار المرض، وقد يكونون قادرين على أداء عملهم المعتاد وإدارة روتينهم الاجتماعي المعتاد بشكل جيد وإلى حد معقول.  حوالي ثلثي حالات التدهور العقلي تتعلق بمرض الزهايمر (Alzheimer’s disease) ، وعدد سنوات التدهور التدريجي قد تمتد من 10 إلى 20 عاماً.  خلال فترة التدهور هذه ، قد تظهر مجموعة متنوعة من الاضطرابات المزاجية والشخصية بالإضافة إلى التدهور الذهني.  مع تقدم المرض ، من المرجح أن يواجه المريض صعوبة متزايدة في الحساب وأداء المهام المعقدة وطلاقة اللغة. 

في هذه المرحلة من المرض ، عندما يدرك المرضى أنهم لا يستطيعون أداء المهام التي كانوا قادرين على القيام بها في السابق ، قد تظهر ردود فعل “مضادة للكارثة” (catastrophic reactions).حالة القلق هذه تظهر غالباً عندما يطلب من المرضى القيام بمهمة بسيطة لم تكن صعبة عليهم قبل المرض ، فيصبحون غاضبين  جداً ومضطربين وقلقين جداً.  ينتج القلق الشديد عن تفسير المرضى لفشلهم في إكمال المهمة على أنه خطر يهدد وجودهم، وكرد فعل على هذا التهديد ، هم يقلصون حياتهم بشكل كبير بحيث لا يتعرضون لمواقف غير مألوفة أو مهام مستحيلة.  يتجنب المرضى أي وعي لصعوباتهم وإعاقتهم كنوع من وسيلة دفاعية أمام القلق الكارثي الذي يهددهم.  عادة ما يصبح هؤلاء المرضى منظمين ومرتبين بشكل مفرط إلى درجة الوسواس القهري، لأن إبقاء كل شيء في مكانه يمنحهم وهم السيطرة على بيئتهم، كما أن الترتيب والنظام يصبحان فعالية ملموسة تشغلهم عن العالم النفسي المجرد والمعقد.

من منظور سايكودينامي ، يمكن فهم فقدان القدرات العقلية المرتبطة بالتدهور العقلي التدريجي على أنه عملية تراجعية في الأنا (regressive process in the ego) ، حيث تتراجع آليات الدفاع الأكثر نضجًا وتظهر أنماط دفاع أكثر بدائية.  تظهر بالتدريج جوانب الشخصية غير المنضبطة التي سابقاً تم قمعها جزئيًا بواسطة القشرة الدماغية السليمة بيولوجيًا. مع تآكل الطبقات الدفاعية في الدماغ يتم استبدال الدفاعات  النفسية عالية المستوى مثل الإيثار/التضحية بدفاعات بدائية كالتمحور حول الذات. الإنكار والإسقاط هي من أكثر الدفاعات البدائية شيوعًا التي يستخدمها الأشخاص المصابون بالتدهور العقلي، وعندما يحدث قصور في الذاكرة ، قد يلوم المرضى الأشخاص حولهم بعد حصول أخطاء، بدلاً من الاعتراف بمسؤوليتهم عن الخطأ.

عند العديد من المرضى المسنين المصابين بالتدهور العقلي من نوع ألزهايمر ، تكمن مأساة المرض في أن الوعي الذاتي قد يظل سليماً مع تدهور عدد من القدرات العقلية، مما يجعلهم عرضة للقلق والألم الشديدين.  الذاكرة المتعلقة بالحاضر تتدهور قبل الذاكرة المتعلقة بالماضي ، لهذا يمكن للعديد من المرضى أن يتذكروا بوضوح كيف كانوا من قبل ، مما يجعل حالتهم الحالية أكثر إزعاجًا وألماً لهم. 

تعتمد استمرارية “الذات” على قدرات الذاكرة المحفوظة.  عندما تبدأ الذكريات البعيدة في التلاشي مع تقدم المرض ، تبدأ هوية المريض في الاختفاء جنبًا إلى جنب مع ذكرياته.  مع الوقت قد لا يستطيع المريض التعرف على أحبائه وأفراد أسرته ويصبح غير قادر على تذكر أحداث حياته الهامة.

العلاج النفسي السايكودينامي أثبت فعاليته في مساعدة مرضى التدهور العقلي في أبحاث كثيرة.  يتمثل الهدف الرئيسي لعلاج المرضى في مساعدتهم على تقبل مدى عجزهم ومحدوديتهم فيما يتعلق بما كان سابقاً.  لتحقيق هذا الهدف ، يجب أن يكون المعالج حساسًا للإصابة النرجسية المتأصلة في قبول الضرر الذي لا يمكن إصلاحه لمهارات المريض وقدراته الفكرية ومواهبه وحتى جوهر شخصيته.  من الضروري أن يحترم المعالج حاجة المريض لاستخدام الإنكار وأن يتعاطف معها، لأن المواجهات الحادة مع إنكار المريض قد تدمر أي أمل في تطوير تحالف علاجي. مساعدة المريض على تقبل نفسه ومرضه قد تتطلب تعريض المرضى تدريجيًا لحقيقة العجز بطريقة تسمح لهم بالحزن لفترة وجيزة، أسبوعًا بعد أسبوع ، على مدى فترة طويلة.

نظرًا لأن الذاكرة مهمة للغاية للشعور باستمرارية الذات ، قد يشجع المعالجون النفسيون مرضى التدهور العقلي على سرد قصص حياتهم وإعادة سردها مع تقدم الوقت.  مع تقدم المرض ، قد يشكل المعالج “أنا مساعد” من خلال مساعدة المريض على تذكر الذكريات المهمة وسرد حياته بشكل تسلسلي. هذه العملية قد تخفف من شعور المريض بالعزلة والوحدة.  غالبًا ما يشعر أيضاً المرضى المسنون بالرعب من أن حياتهم كانت بدون هدف أو فائدة، وعندما يستمع المعالج إلى قصص حياتهم ويكون بمثابة شاهد على ما حدث ، فقد يكون لهذه اللحظات قيمة علاجية كبيرة للمريض.  سيشعر بعض المرضى بإحساس متجدد بالمعنى والهدف وحتى الإحساس بأنهم لم يعيشوا عبثًا. نموذج “مراجعة الحياة” العلاجي قد يقود إلى ذكريات الفرح والانجازات بالإضافة إلى حالات الحزن والفقدان، وقد تساعدهم هذه الذكريات على التغلب على الإحساس بالفراغ وعدم الأهمية.  إن تذكر حياة المريض أمر مفيد ، لكن هناك أهمية كبيرة أيضاً لل”المنزل” -سواء كان منزل الطفولة أو الحالي- كنقطة بداية و”مرساة” الذات.  علاوة على ذلك ، يصبح مرضى التدهور العقلي أيضًا قلقين للغاية بشأن فقدان التواصل مع الآخرين.  قد يكون هذا القلق من فقدان الوجود الفعلي للآخرين في حياتهم، ولكنه قد يظهر أيضًا كخوف من فقدان القدرة على الاحتفاظ بالآخرين كتصورات عقلية، اي ان يستمروا بتذكر احباءهم.

من منظور العلاج السايكودينامي ، لا يوجد تدهور عقلي غير قابل للاستفادة من العلاج.  يمكن عمل الكثير من العمل العلاجي لمساعدة هؤلاء المرضى وعائلاتهم على التعامل مع المرض بشكل يومي. استناداً على العلاج النفسي السايكودينامي، اذا كنتم أفراد عائلة شخص بدأ يعاني من التدهور العقلي، يُنصح ما يلي:

١. التوجه لعلاج نفسي (كلامي أيضاً) في أسرع وقت ممكن.

٢. من الضروري فهم أن التغييرات الصعبة في سلوك الشخص المريض هي نتيجة قلق شديد، إنكار وتمسك بالكرامة حتى اللحظات الأخيرة. يجب التعامل مع المريض بصبر شديد، وعدم دخول صراعات معه أو مواجهته بعجزه وإنكاره بشكل مباشر وسريع.

٣. بالإضافة للإنكار، قد يستعمل الشخص المريض وسائل دفاعية كثيرة منها الإسقاط، لهذا قد تشعرون بلحظات كثيرة بالذنب والمسؤولية. انتبهوا لمشاعركم الصعبة لأنكم غالباً في الواقع لستم مذنبين. المساعدة الأكبر التي تقدمونها للشخص المريض هي الاحتواء، التفهم والتوصل معه لحلول تساعده.

٤. استمعوا لحديث الشخص المريض، خصوصاً اذا أراد التكلم عن ماضيه أو طفولته. في المستقبل قد يفقد ذاكرته هذه ويحتاجكم أن تذكروه بأحداث حياته كي لا يشعر بالفراغ والضياع.

٥. قوموا بطمأنة الشخص المريض أنكم سوف تكونون بجانبه في كل الظروف، وحاولوا الابتعاد عن الصراع معه او انتقاده أو لومه.

٦. مشاعر الشخص المريض الصعبة قد تؤدي إلى نوبات غضب او فقدان للانضباط، لا تفسروا ردود الأفعال هذه بشكل شخصي، بقاءكم هادئين ومنضبطبن أمامه هو أكثر ما يساعده.

٧. كأفراد عائلة الشخص المريض من الطبيعي أن تشعروا بالألم النفسي والقلق والغضب، وقد تحتاجون التوجه بأنفسكم للإرشاد والعلاج النفسي للحفاظ على صحتكم النفسية.

بسمة سعد

أخصائية نفسية علاجية

About Basma Saad

Clinical psychologist and artist

مناقشة

لا توجد تعليقات حتى الآن.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

اضغط هنا لكي تتسجل للموقع وتحصل على المقالات الجديده مباشرةً لبريدك الالكتروني

انضم مع 91 مشترك

مرحباً

هنا في مدونتي الخاصة أكتب عن الصحة النفسية، ما يدعمها وما يعيقها. أحيانا أكتب من وجهة نظر مهنية، وفي أحيان أخرى أشارك في أفكار واراء شخصية. أعتبر مدونتي مساحتي الخاصة التي تمنحني كامل الحرية الفكرية. اسمي بسمة، وأنا أخصائية نفسية علاجية مع خبرة سنوات طويلة في التشخيص والعلاج النفسي. بالاضافة الى ذلك يشغل الفن والرسم حيزا كبيرا في عالمي النفسي والفكري، وأنا أرسم في الألوان المائية.
%d مدونون معجبون بهذه: