حبنا للاخرين يحمل في طياته مكونات سرية وغير واعية، تدخلنا في بلبلة وصراعات نفسية نفضل ألا نعلم بوجودها. لكن رغبتنا في “عدم المعرفة” لا تلغي وجود ما لا نريد الاقرار بوجوده، لتبقى الصراعات النفسية العميقة من خلف الكواليس عاملة على تشويش عرضنا المسرحي المثالي ومسببة لنا بمعاناة شديدة.
ترى ميلاني كلاين أن منشأ الصراعات في العلاقات البشرية هو نفسي وشخصي، أساسه العالم الداخلي الخاص بكل شخص وصراع القوى فيه. وفقا لميلاني كلاين ما يحصل في العلاقات منشأه العالم الداخلي وليس الخارجي، أي اننا نستجيب في علاقاتنا لقوى نفسية داخلية.
ألمنا النفسي هو نتيجة رفضنا للاقرار بالواقع النفسي الذي يحتوي على مشاعر نصنفها على أنها “سيئة” أو “قذرة”. هذه المشاعر، التي يمكن أن نعتبرها “عوارض جانبية للحب” هي: العدوانية، الغيرة والتعلق. رفضنا لمعرفة الاجزاء المظلمة في حياتنا النفسية يعمل كمحرك قوي ويؤثر بشكل كبير على مشاعرنا وسلوكياتنا. هذا الرفض يقوم بتشويه الحقيقة والواقع الخارجي، ويعمل على تخريب العلاقات مع الاخرين حولنا بشكل عام، ومع من نحب بشكل خاص.

ما الذي يحصل حين نحب؟
حين نحب شخص ما نبدأ بالشعور بالتعلق الكبير به وبحاجتنا الكبيرة له. لكن كما هو الحال الطبيعي هذا الشخص لا يمكن أن يعطي تغطية كاملة وشاملة لجميع احتياجاتنا النفسية في الاوقات التي نحتاجه بها. التعلق بهذا الشخص يشعرنا بأننا نحتاج ما لا يمكن ان تكون لنا سيطرة كاملة عليه، وفقدان السيطرة هذا بالاضافة لشعور الحاجة والنقص يوقظ في داخلنا الغضب والعدوانية. ما لا نستطيع تحمله في تلك اللحظة هو اجتماع مشاعر الحب مع العدوانية والكره والرغبة بالأذى، وخوفنا من الأذى الذي قد نقوم به تجاه من نحب يجعلنا نبعده عنا او ننكر حبنا له (او حبه لنا) من الأساس.
الحب والتعلق ينتجان أيضا الشعور بالغيرة. ففي داخلنا نحن نشعر أن من نحب يملك ما ينقصنا، ونحن نحتاجه من أجل سد هذا النقص أو الفجوة العاطفية المؤلمة في داخلنا. الغيرة تولد مجددا العدوانية والغضب، فتخاف من عاطفتنا المؤذية والسلبية ونقوم بسلوكيات لابعاد من نحب، حفاظا عليه.
قد يصل رفض الاقرار بوجود الاجزاء المؤذية في النفس البشرية الى حد تخريب لا واع للعلاقات. من الممكن أن يفقد الشخص سيطرته على عدوانيته بسبب اسقاط هذه العدوانية على من يحب والدخول في صراع حاد معه يقطع من بعده العلاقة ويستبدله بغيره. في نقيض هذه الحالة قد تنشأ عدم رغبة بإنشاء علاقات، وذلك بسبب الخوف من فقدان السيطرة على العدوانية. في هذه الحالة يمتنع الشخص عن العلاقات ولا يدخل في صراعات، ليثبت لنفسه أنه “نظيف” من مشاعر العدوانية.
لماذا نرفض الاقرار بوجود مشاعر العدوانية والتعلق والغيرة؟
نحاول انكار وعدم معرفة ما يدور في داخلنا لأن النفس ترفض وتنتفض أمام امكانية وجود الدمار والعدوانية في داخلنا. نحن لا نريد أن نسبب الأذى لمن نحب، ولا نريد أن نعرف أنه موجود في داخلنا ما يمكن أن يسبب له الأذى. في رفضنا هذا نحاول الامتناع عن الألم، لكنها استراتيجيه غير فعاله لأن الألم يبقى في داخلنا ليخرب حياتنا بطرق مختلفة.
في العالم النفسي، الخوف من أن أسبب الأذى لغيري يأخذ حجما أكبر من الخوف أن يسبب غيري لي الأذى. الخوف بأن يتسبب لي غيري بالأذى هو ثانويا، لانه ناتج في أساسه من الخوف بأنني تسببت له الأذى أولا، وعلى هذا ينتظرني منه العقاب.
ما هي أهمية الوعي لما يدور في أعماقنا؟
يجب علينا أن نجتهد لنفهم الأجزاء “المظلمة” في أعماق أنفسنا، لأننا عندما نفهمها بعمق يقل خوفنا منها ونستطيع استعمال قوانا النفسية بطرق بناءة. الفهم الذي نحتاجه ليس فهما “ذهنيا”، بل فهما نفسيا عميقا يأتي نتيجة القدرة على احتمال المعاناة من مشاعرنا وقدرتنا على احتواءها. الذي نحتاجه من أجل التطور والفهم النفسي العميق هو الخيال، التعاطف والحب.
لا يمكننا الامتناع عن مشاعر الكره والعدوانية، ويجب أن نعترف نفسيا بوجود هذه الأجزاء في داخلنا من أجل احتواءها وعدم السماح لها بتخريب حياتنا. في بعض الحالات القصوى يقوم بعض الاشخاص بالانتحار لأنهم لم يستطيعوا احتمال مشاعر الكره والتدمير الموجودة في داخلهم تجاه من يحبون. الاقرار بوجود هذه المشاعر هو عن طريق ايجاد مساحة في النفس لاحتواء الصراع الأساسي للنفس البشرية، وهو الصراع بين الحب والكره.
بسمة سعد
أخصائية نفسية علاجية
رائع رائع سلم قلمك
إعجابإعجاب