أنت تقرأ...
كتب وروايات, أنا ونفسي, اقتباسات وخواطر

رواية “هندرسون ملك المطر” – مراجعة، تحليل واقتباسات

لمتابعة المقالات الجديدة في علم النفس، الأدب والفن، تابعوني في الفيسبوك على صفحة الصحة النفسية وصفحة Basma’s psychology and art.

ما الذي يحصل حين يعي فجأة شخص في الخامسة والخمسين من عمره أنه أضاع سنينه دون أن يشعر أن حياته كانت فعلاً قيمة، وأنه غير راضٍ بتاتاً عن نفسه؟ كيف يواجه شعوره بالضياع والفراغ، مع الخوف المتراكم في داخله من الموت والنهاية التي اقتربت؟ 

هذا ما شعر به يوجين هندرسون، الرجل المليونير قوي البنية وجندي الكوماندو السابق، حين اتخذ قراراً فجائياً بالسفر إلى أفريقيا للبحث عن الإجابات وليسترجع حياته الضائعة. 

لم تكن حياة هندرسون فارغة أو مملة. لقد شارك في الحرب وتزوج مرتين وأنجب خمسة أطفال وامتلك مزرعة خنازير. لكن هذا كله لم يسعفه من الفراغ والظلام الموجود في داخله. 

هكذا تبدأ رواية “هندرسون ملك المطر” للكاتب الأمريكي سول بيلو، التي نشرت سنة 1959 (لم أجد لها ترجمة للعربية، ترجمت الاقتباسات بنفسي) وصُنِّفت كواحدة من أفضل مئة رواية في اللغة الانجليزية:  

“ما الذي جعلني أقوم بهذه الرحلة إلى أفريقيا؟ لا يوجد تفسير سريع لهذا. ساءت الأمور أكثر وأكثر وسرعان ما أصبحت معقدة للغاية. عندما أتذكر كيف كانت حالتي في سن الخامسة والخمسين عندما اشتريت التذكرة ، كان الحزن قد طغى على كل شيء. بدأت الحقائق تتزاحم في ذهني وسرعان ما أصبحت أتعرض لضغط في صدري. الاندفاع غير المنضبط بدأ من والداي ، ثم زوجاتي ، ثم بناتي ، ثم أطفالي ، ثم مزرعتي ، ثم حيواناتي ، ثم عاداتي ، ثم أموالي ، ثم دروس الموسيقى، ثم ثمالتي ، ثم تحاملي ، ثم وحشيتي، ثم أسناني ، ثم وجهي ، ثم روحي! كان عليّ أن أصيح ، “لا ، لا ، ابتعدوا عني، عليكم اللعنة، دعوني وشأني!” لكن كيف يمكنهم أن يتركوني وشأني؟ إنهم ينتمون لي. هم لي. وهم يتراكمون علي من جميع الجهات وهذا يتحول إلى فوضى عارمة.”

شخصية يوجين هندرسون

شخصية هندرسون في الرواية تظهر كشخصية ذات تركيبة معقدة. الطريقة التي يصف بها يوجين نفسه تجعلنا نشعر أنه يمقت ذاته ويملك انتقاداً شديداً نحوها. هذا الوصف جعلني في بعض الأحيان أمقته وأنتقده بنفسي على اندفاعه وأنانيته وعدم قدرته على ضبط نفسه. لكن هناك شيء ما في مدى كرهه لنفسه ووعيه الذاتي وماضيه المأساوي جعلني أتعاطف جداً معه. من الواضح أن هندرسون يقسو جداً على نفسه، ويقوم بعملية فصل كامل بين الوجه الوحشي من شخصيته ووجه آخر وصفه على أنه “إيثار متوارث في عائلته” جعلته عبر السنين يرمي بنفسه في وجه المخاطر لينقذ حياة غيره. 

هكذا وصف هندرسون نفسه:

“مع جسد لاعب كرة القدم الضخم، ولوني الغجري، وشتائمي وصراخي وإظهاري لأسناني وهزي الدائم لرأسي، لا عجب أن الناس ابتعدوا عن طريقي. لكن هذا لم يكن كل شيء….”

“حسنًا ، لقد كنت دائمًا هكذا ، قويًا وصحتي جيدة ، وكنت وقحًا وعدوانيًا ومثيراً للمتاعب في صباي. في الكلية ارتديت أقراطاً ذهبيةً لإثارة المعارك ، وعلى الرغم من أنني حصلت على ماجستير لإرضاء والدي ، كنت أتصرف دائمًا كرجل جاهل وفج. عندما خطبت فرانسيس ذهبت إلى جزيرة “كوني” (Coney  Island) ووشمت اسمها على أضلاعي بحروف أرجوانية.”

“هل من المستغرب اذاً أن أرغب بالسفر إلى أفريقيا؟ لكني أخبرتكم أن هناك دائمًا يوماً من الدموع والجنون. كان لدي معاركي ، واجهت مشاكلي مع الجنود ، وقمت بتهديدات انتحارية…”

يصف هندرسون شخصيته المقيتة المرفوضة في المجتمع، لكن شيء ما في تصرفه يثير الاعجاب في كونه تمرداً على مجتمع عنصري، منافق ومزيف. شخصية هندرسون تبدو على أنها “بطل-سلبي”، العكس مما يمكن توقعه في الروايات الخيالية والأساطير الرومانسية، لكن على الرغم من ذلك هي حقيقية في مشاعرها ومثيرة للاعجاب.

“تركت الصيد وجلست على الشاطئ لأطلق النار على الزجاجات وليقول الناس : “هل ترون ذلك الشخص الضخم مع الأنف والشارب الهائلان؟ حسنًا ، لقد كان جده الأكبر وزير الخارجية ، وكان أعمامه سفراء في إنجلترا وفرنسا ، وكان والده العالم الشهير ويلارد هندرسون صديق ويليام جيمس وهنري آدامز “. ألم يقولوا هذا؟ أراهن أنهم فعلوا. كنت هناك في هذا المنتجع مع زوجتي الثانية المتلهفة التي كان طولها أقل بقليل من ستة أقدام ، وولدانا التوأم. في غرفة الطعام كنت أضع البوربون في قهوتي الصباحية من زجاجة كبيرة وعلى الشاطئ كنت أحطم الزجاجات. اشتكى الضيوف للمدير من الزجاج المكسور والتقطه المدير بمساعدة زوجتي “ليلي”. لم يكونوا على استعداد لمواجهة مباشرة معي. كان منتجع أنيق. هم لا يقبلون الزوار اليهود، ثم يحصلون علي أنا، يوجين هندرسون. توقف الأطفال الآخرون عن اللعب مع أولادي التوأم، بينما تجنبت الأمهات “ليلي”.

حياة هندرسون العائلية:

عندما كان في العشرين من عمره ، توفي شقيقه الأصغر غرقاً في النهر بعد تدخينه الحشيش.  لم يتمكن والد هندرسون ، وهو رجل ثري ومتعلم ، من التعافي من فقدان ابنه البكر. كان هندرسون يعرف في قلبه أن الأب كان يفضل موته على موت شقيقه اللطيف والحساس. في لحظة غضب ، لعنه والده ، وهندرسون ترك المنزل لسنوات عديدة ، في رحلة من الغضب والألم.

“سرق أجدادي الأرض من الهنود. حصلوا على المزيد من الحكومة وخدعوا أيضًا مستوطنين آخرين، لذلك أصبحت وريثاً لثروة عظيمة.”

يظهر خلال الرواية الرأي المزدوج لهندرسون بعائلته، التي صورها من جهة بأنها عائلة جمعت ثروتها من السرقة، لكن أفرادها كانوا أيضاً علماء ومفكرين ومثقفين. على الرغم من مشاعر الغضب التي حملها تجاه والديه، بقي في داخله شوق كبير وحنين كبير إليهم. 

“في النهاية ، كما تعلمون أنا رجل كوماندو.  وبهذه الأيدي دفعت الخنازير وقمت بتثبيتها وربطها. والآن هذه الأصابع تعزف الموسيقى  على الكمان وتقبض على عنقها وتعزف صعودا وهبوطا لحناً ل”شيفيك” (Sevcik). الضجيج الناتج يشبه تحطم صناديق البيض. ومع ذلك ، فكرت انه إذا أمكنني ضبط نفسي في نهاية المطاف قد يخرج من الكمان صوت الملائكة. ولكن على أي حال لم أكن آمل أن أصبح بإتقان الفنان. كان هدفي الرئيسي هو التواصل مع والدي من خلال العزف على آلة الكمان. في الطابق السفلي من المنزل ، عملت بجد كما هي عادتي في كل شيء. شعرت بأنني ألاحق روح أبي وأهمس ، “أوه ، أبي ، بابا… هل تتعرف على الألحان؟ هذا أنا ، يوجين ، أعزف على كمانك ، أحاول الوصول إليك”. لم أتمكن أبدًا من إقناع نفسي بأن الموتى ماتوا تمامًا. أنا معجب بالناس المنطقيين وأحسد أدمغتهم الواضحة ، ولكن ما فائدة خداع نفسي؟ لقد عزفت فعلاً في القبو لوالدي ووالدتي. عندما تعلمت بضع المعزوفات كنت أهمس ، “أمي ، هذا ال”هوموريسك” (Humoresque) من أجلك.” أو ، “بابا، استمع إلى هذا “التأمل” من أوبرا “Thaïs”.  لقد عزفت بتفانٍ وبشعور وشوق وشغف بالحب إلى حد الانهيار العاطفي. أيضا في الاستوديو الخاص بي غنيت وأنا أعزف لموزارت “Rispondi! Anima bella” : “لقد كان محتقراُ ومرفوضاً ، رجل أحزان يرافقه الألم” (هاندل). كنت أمسك عنق الالة الصغير كما لو كان هناك اختناق في قلبي ، وأصبت بتشنجات في رقبتي وكتفي.”

انتسب هندرسون لوحدة الكوماندو في الجيش، ثم أصيب ودخل المستشفى. 

“كانت الحرب تعني لي الكثير. أصبت عندما خطوت على ذلك المنجم البري وحصلت على وسام “القلب الأرجواني” . كنت في مستشفى نابولي لفترة طويلة. صدقوني ، كنت ممتنًا بأنني لا زلت على قيد الحياة. لقد أعطتني التجربة بأكملها مشاعر رائعة وحقيقية ، التي لا زلت أطلبها باستمرار.”

الشعور المتجدد بالحيوية والحياة لم يستمر، وحين عاد لوطنه اتخذ قراراً بأن يصبح مزارعاً ومربياً للخنازير. 

“عندما عدت من الحرب، عدت مع فكرة أن أصبح مزارعا ً للخنازير ، وهذا ربما يوضح ما كنت أفكر به عن الحياة بشكل عام.” 

تزوج هندرسون للمرة الأولى من فرانسيس، شابة المجتمع الراقي التي اتضح لاحقاً أنها مصابة بالفصام. يتحدث هندرسون عن برودها العاطفي وعدم قدرتها على حبه أو اظهار حتى القليل من الاهتمام به. بعد طلاقهم تعرف على “ليلي”، التي وصفها أنها النقيض التام لفرانسيس، كونها شابة من خارج المجتمع الراقي، والمليئة بالعاطفة والاهتمام. لكن رغم وجود الحب الكبير في علاقتهم، هي لم تخلو من الاضطراب والأذى المتبادل. 

قد يظهر أحياناً هندرسون على أنه أباً مهملا لا يكترث لأطفاله، لكن في بعض أحداث الرواية أظهر حباً واهتماماً ودعماً كبيراً لأولاده، بل وقام بالدفاع عنهم أمام المجتمع المثالي الذي رفضهم. 

أحداث رحلة أفريقيا

رحلة هندرسون لأفريقيا جاءت نتيجة بحثه عن تفسيراً للصوت الداخلي الذي لا يكف عن سماعه، والذي يقول “أنا أريد… أنا أريد”. هذا بالاضافة الى بحثه عن الغفران والخلاص ورغبته بأن يتغير.

“كانت قد مرت حوالي ثماني سنوات على انتهاء الحرب. كنت قد انفصلت عن “فرانسيس” وتزوجت من “ليلي”، وشعرت أنه يجب القيام بشيء ما. سافرت إلى أفريقيا مع صديقي تشارلي ألبرت. هو أيضا مليونير.”

ترك هندرسون صديقه تشارلي وأخذ مرشداً سياحياً أسمه روماليو، ليدخل أعماق الصحراء الأفريقية. المحطة الأولى في رحلته كانت زيارة قبيلة بدائية اسمها “أريناوي”، وعلم أن هذه القبيلة تعيش مصيبة كبيرة تهدد حياة أفرادها. 

التقى هندرسون الملكة التي أمل أن تعطيه جواباً لسبب الفوضى والألم في داخله. 

“قالت لي الملكة بضعة أشياء رائعة. أخبرتني أولاً أن العالم كان غريباً بالنسبة لي كما هو غريب بالنسبة لطفل. لكنني لست طفلا. لهذا ما قالته أعطاني السرور والألم معاً”.

“قالت الملكة العجوز “جرونتو مولاني”. 

“ما هذا؟ ماذا قالت؟” 

“قالت ، أنت تريد أن تعيش. جرونتو مولاني: الإنسان يريد أن يعيش.”

مست إجابات الملكة صميم هندرسون، وأقسم على مساعدة القبيلة في حل المشكلة الكبيرة التي تعاني منها. لكن اندفاع هندرسون وعاطفته المفرطة أدت لقيامه عملاً أتى بنتيجة عكسية، التي ربما دمرت حياة أبناء القبيلة للأبد. 

غادر هندرسون القبيلة المسالمة وهو يشعر بأنه محطم، بحيث تضاعفت بداخله مشاعر الذنب وكره الذات. ورغم تحذير مرشده “روماليو” الشديد، أصر على زيارة قبيلة “واريري” التي على عكس قبيلة “أريناوي” معروفة بوحشيتها. 

بعد تعرضه لأحداث مثيرة للرعب، التقى هندرسون بملك القبيلة “دافو”، الذي سوف يصبح صديقه ومعلمه ومرشده الروحي. هذا الملك الموجود في الأعماق الأفريقية البعيدة عن الحضارة كان يدرس الطب في الجامعة، وله شغف كبير بالطب والعلم والفلسفة. هذا الملك كان بنفسه ضحية العادات والتقاليد القبلية التي حاول محاربتها والحفاظ على انفراديته وتفكيره المستقل من جهة، لكن مع الرضوخ لها واحترامها من جهة أخرى. في خضم رحلة شفائه، كان هندرسون موجوداً وسط صراع الملك مع قبيلته، لتتطور الأحداث الدامية لاحقاً وتأخذ منحى غير متوقع. من ضمن هذه الأحداث أصبح هندرسون بنفسه ملكاً أيضاً: الملك “سونغو”، ملك المطر.

“قال لي الملك: “أنت تبدو شرساً جداً”. هذا ليس جديداً علي. ومع ذلك ، آذنتني هذه الملاحظة منه. “حسنا ، ماذا الذي تتوقعه؟ أنا من النوع الذي لا يستطيع البقاء على قيد الحياة دون أن يتشوه. لقد تركت الحياة أثرها علي. لم يكن هذا في الحرب فقط ، لقد أصبت بجروح سيئة. لكن طلقات الحياة حطت هنا…” ضربت على صدري. “هنا! أنت تعرف ما أعنيه ، أيها الملك؟ ولكن لا أريد أن أفقد حتى حياةً سيئه كحياتي، وهذا على عكس تهديداتي بالانتحار. إذا لم أتمكن من تقديم مساهمة نشطة على الأقل يجب أن أعبر عن شيء ما. لكن حتى هذا لا أعرف شيئًا عنه. لا يبدو أنني أعبرعن شيء “.

“كل شيء فيك ، هندرسون ملك المطر يصرخ : ‘النجدة ، النجدة! ماذا أفعل؟ ماذا علي أن أفعل؟ بسرعة! ماذا سيحدث لي؟” بدون توقف. هذا أمر سيء.”

الملك “دافو” وصف هندرسون بأنه يحبس خوفه الشديد بداخله ويمتنع عن مواجهته، وحاول مساعدته بالمواجهة عن طريق تشجيعه ليقترب بدون خوف من اللبؤة المدربة “أتي”. للملك كانت فلسفته الرائعة بالنسبة للنفس البشرية، والعلاقة القوية بين “النفس” و”الجسد”. 

هذا جزء من هذه الفلسفة:

قال “الخوف هو الحاكم الأكبر للبشرية وله أكبر سيطرة على الإطلاق. هو يجعل لونك أبيض كالشموع. يقسم كل عين من عينيك إلى نصفين. الخوف أكثر من أي شيء آخر، هو قوة تقولبك وتصيغك وتأتي في المرتبة الثانية بعد الطبيعة نفسها”.

“هل تعتقد أن هناك علاجًا؟”سألت. أجاب الملك: “أنا واثق أن هناك علاج بالتأكيد . وإلا البديل سوف يكون الاستسلام.”

“سأقدم لكم ملخصًا تقريبيًا لوجهة نظره.  كان لديه نوع من القناعة حول العلاقة بين الداخل والخارج ، خاصة عند البشر.  وبما أنه كان طالبًا متحمسًا وقارئًا عظيمًا ، فقد شغل وظيفة عامل النظافة في مكتبة مدرسته في سوريا ، وجلس بعد ساعات الإغلاق وملأ رأسه بالأدب العالمي.  كان يقول ، على سبيل المثال ، ” كتاب جيمس في علم النفس ، هو كتاب جذاب للغاية.” لقد درس الكثير من هذه الكتب. وما انشغل به هو الإيمان بتحويل وتغيير المادة البشرية ، بحيث يمكنك العمل بكلا الطريقتين ، إما من القشرة إلى النواة أو من النواة إلى القشرة ؛  الجسد يؤثر على العقل ، والعقل يؤثر على الجسد ، ليعود مرة أخرى ويؤثر على العقل ، الذي بدوره يؤثر مرة أخرى على الجسد. كانت العملية كما يراها ديناميكية تمامًا.”

أخذني إلى الباب وجعلني أرى من خلاله  صرخة اللبؤة “أتي”، وبنبرة شخصية ناعمة تميز فيها، توجه إلى صلب الموضوع وقال: “ما قد يشعر به المسيحي في  كنيسة سانت صوفيا -التي قمت بزيارتها في تركيا عندما كنت طالباً- ، أشعر به في حضور اللبؤة. عندما تثني ذيلها، أشعر بضربة فوق قلبي. قد تسألني ، ماذا يمكنها أن تفعل لك؟ وأنا أجيب أشياء كثيرة. أولاً، “أتي” لا يمكن تجاهلها. سوف تجد أنه لا مفر من الانتباه لها، وهذا ما تحتاجه إذا كنت متجنبًا بطبعك. حتى لو تجنبتها مؤقتًا ، هي ستغير ذلك وسوف تجعل وعيك يتوهج. “أتي” سوف تفرض عليك اللحظة الحالية.

ثانياً ، الأسود كائنات حسية تشعر بكل ما حولها. لكن هي لا تقوم بهذا على عجل بل بنوع من الترف المتعمد. يقول الشاعر: “النمور الغاضبة أكثر حكمة من الخيل الذي يتبع التعليمات”. دعنا أيضاً نتبنى هذه الفكرة عن الأسود. لاحظ معي الان اللبؤة “أتي” ، تأمل فيها ، كيف تخطو وتتحرك ، كيف تنزعج ، كيف تنزلق بسلاسة، كيف تحدق أو ترتاح أو تتنفس. أريدك أن تركز على تنفسها. هي لا تتنفس بضحالة. هذه الحرية لعضلاتها الوربية ومرونتها البطنية تعطي انسياباً حيوياً بين أعضائها. هناك المزيد من الأمور الخفية، مثلاً، كيف تترك لك التلميحات أو تحصل على المداعبات. لكن لا أتوقع منك أن ترى هذا في البداية. “أتي” لديها الكثير لتعلمك إياه.

 “تعلمني؟ هل تعني حقًا أن “أتي” قد تغيرني.

“نعم تماما! التغيير على وجه التحديد! لقد هربتَ مما كنتَ عليه ولم تصدق أنك سوف تهلك. قررت أنك مرة أخرى وأخيرة سوف تعطي فرصة للعالم على أمل التغيير. أوه ، لا تتفاجأ بأنني عرفت هذا”. رأى الملك كيف تأثرت من كونه فهم موقفي. “لقد أخبرتني بالكثير. أنت صريح. هذا يجعلك شخص لا يقاوم ، وليس هناك كثيرين مثلك. لديك أساسيات النفس الراقية وكان بإمكانك أن تكون نبيلًا. قد تكون بعض الأجزاء فيك مدفونة منذ فترة طويلة وصنفت على أنها ميتة. لكن هل سوف يمكننا انقاذها؟ من هنا يأتي التغيير. “

قلت “هل تعتقد أن لدي فرصة ؟” .

“هذا ليس مستحيلًا على الإطلاق إذا اتبعت توجيهاتي.”

لم يكن الأمر سهلاً على هندرسون، الذي شعر بالبلبلة والخوف وعبر عن صعوبة بالغة في الالتزام لجلسات التدريب والترويض. الملك “دافو” كان بجانبه، وساعده على الاستمرار. 

“أنت تتجنب مرة أخرى هندرسون ملك المطر!”. كانت عيناه تنظران إلي من تحت القبعة المخملية الناعمة. “التغيير لن يحصل بهذه الطريقة. يجب عليك أن تؤسس عادة جديدة.”

“كل المقاومات تبذل قصارى جهدها ضدك الآن.” ثم قال: “حسنًا ، سوف نحررها الان. أنا واثق تمامًا بك”.

“عندما يهدأ الخوف ستتمكن من الإعجاب فعلاً بجمال “أتي”. أعتقد أن جزءًا من الاحساس بالجمال ناتج من التغلب على الخوف. عندما يتنحى الخوف ، يظهر مكانه الجمال . يقال هذا أيضًا عن الحب المثالي إذا لم تخني ذاكرتي، وهذا يحصل إذا تم إزالة التركيز بالأنا.”

“لماذا أنت حزين وخال من الحيوية؟ أنت أسد الآن. ذهنيا عليك أن تستوعب البيئة من حولك. السماء والشمس ومخلوقات الأدغال. أنت متصل بجميعهم. الببغاوات هم أبناء عمومتك. السماء هي أفكارك. الأوراق هي تأمينك ، ولا تحتاج إلى تأمين آخر. كلام النجوم لا ينقطع طوال الليل. هل انت معي سيد هندرسون؟ أخبرني، هل تناولت الكثير من الكحول في حياتك؟ وجهك يشير إلى ذلك، أنفك بشكل خاص. لا تأخذ الموضوع بشكل شخصي. يمكنك تغيير الكثير، لا أعني يمكن تغيير كل شيء، ولكن الكثير جداً. يمكنك الحصول على توازن جديد ، وهذا سيكون توازنك الخاص.”

“لا تتحدث بعبارات اللوم مع نفسك.  هناك عوامل كثيرة تتوسط وتحرض الموضوع.  كل شخص مختلف عن غيره. مليار شيء صغير لا يمكن استيعابهم حتى ممن له القدرة على تحريكهم. صحيح أن الذكاء النقي هو الأفضل ، ولكن من يستطيع أن ينتقد ويحكم؟ أحياناً تعمل أمامنا عناصر سلبية وإيجابية ، ونحن يمكننا فقط النظر إليها والتساؤل أو البكاء.”  

“الخيال هو أحد قوى الطبيعة.  أليس هذا الأمر كافيا لجعل الشخص مليئا بالنشوة؟  الخيال والخيال والخيال! الخيال يمكنه أن يتحول إلى واقع.  هو يستطيع أن يحمي ، أن يغير وأن يُخَلِّص! هل ترى ذلك؟ أنا أجلس هنا في إفريقيا وأكرس نفسي شخصياً لهذه الفكرة، وبأقصى قدرتي ، لأنني مقتنع. قد يتحول الانسان العاقل (Homo sapiens) ببطء إلى ما كان قد تخيله.  أوه ، هندرسون ، كم أنا سعيد لأنك هنا! لقد اشتقت إلى شخص لمناقشة هذه الأمور معه. أنت رفيق العقل، هبة لي من السماء”.

هل تغير أو شفي هندرسون؟ 

يظهر تغير هندرسون النفسي في رسالة يكتبها إلى زوجته ليلي من أفريقيا. لقد كانت الرحلة مرهقة جداً بالنسبة له، بأحداث دامية ودرامية حصلت بسرعة كبيرة. 

يستعيد هندرسون حلماً قديماً لطالما كان يراوده، وهو أن يصبح طبيباً. يقرر هندرسون ملك المطر أن يبدأ بدراسة الطب، في عمر الخامسة والخمسين. 

“أريد أن أضع يدي على المرضى.  أريد أن أعالجهم. المعالجون مقدسون.  لقد كنت بنفسي بحالة سيئة للغاية لكن يجب أن تكون هناك فضيلة في ما في داخلي. “ليلي”، سوف أتوقف فعلاً عن تدمير نفسي.”

“يجب أن أتغير.  لا يجب أن أعيش في الماضي لأنه سوف يدمرني.  الموتى يسكنون داخلي ، يأكلونني داخل منزلي وخارجه. تربية الخنازير في المنزل كانت من أجل تحديهم .  يجب أن أبدأ بالتفكير في العيش. يجب أن أحرر “ليلي” من الابتزاز وأضع الحب على مساره الحقيقي. لأننا في نهاية الأمر ، انا و”ليلي” كنا محظوظين للغاية.”

يغادر هندرسون أفريقيا بعد حدث صادم هز كيانه النفسي. لم تنتهي رحلته “في القمة” مع نهاية سعيدة، بل انتهت بعد لحظات فقط من خروجه من الحضيض النفسي، مما يجعلنا نتمسك بفكرة أن النهاية السعيدة كانت احساس التغيير والامتلاء العاطفي، الذي ربما سوف يرافقه في حياته. 

تحليل للرواية

كانت رواية “هندرسون ملك المطر” كثيفة جداً، وكانت من أكثر الروايات التي كلفتني وقتاً وجهداً عاطفياً. لكنها على الرغم من ذلك تستحق أن تصنف بين أفضل الروايات التي قرأتها حتى اليوم. 

كوني أخصائية نفسية لا أستطيع الامتناع عن التفكير برمزية الرحلة إلى أفريقيا، وتشبيهها بالدخول إلى العلاج النفسي. تماماً مثل الرحلة إلى أفريقيا قد يكون العلاج النفسي “رحلة إلى الذات البدائية”، مليئة بالعثرات والألم والبلبلة، يقودنا فيها الدافع للتغيير وملأ النقص العاطفي والفراغ النفسي. 

قد نواجه جميعنا في مرحلة ما أزمة وجودية، تجعلنا نقوم ب”رحلتنا الخاصة إلى أفريقيا”، إما عن طريق العلاج النفسي أو بجهود ذاتية من البحث في الأعماق. لا نستطيع ضمان أحداث الرحلة وربما تكون صعبة للغاية ومليئة بالألم، ولكننا غالباً لن نخرج منها كما دخلناها. 

في النهاية أود أن اتوجه لمن يقرأ كلماتي بسؤال… 

هل أنت “في افريقيا” الآن؟ 

هل تهم بالدخول إليها؟ 

“هل خرجت منها؟” 

“هل تعتقد أنك سوف تدخلها يوماً ما؟” 

بسمة سعد

أخصائية نفسية علاجية

About Basma Saad

Clinical psychologist and artist

مناقشة

لا توجد تعليقات حتى الآن.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

اضغط هنا لكي تتسجل للموقع وتحصل على المقالات الجديده مباشرةً لبريدك الالكتروني

انضم مع 91 مشترك

مرحباً

هنا في مدونتي الخاصة أكتب عن الصحة النفسية، ما يدعمها وما يعيقها. أحيانا أكتب من وجهة نظر مهنية، وفي أحيان أخرى أشارك في أفكار واراء شخصية. أعتبر مدونتي مساحتي الخاصة التي تمنحني كامل الحرية الفكرية. اسمي بسمة، وأنا أخصائية نفسية علاجية مع خبرة سنوات طويلة في التشخيص والعلاج النفسي. بالاضافة الى ذلك يشغل الفن والرسم حيزا كبيرا في عالمي النفسي والفكري، وأنا أرسم في الألوان المائية.
%d مدونون معجبون بهذه: