أنت تقرأ...
كتب وروايات, أنا ونفسي

رواية “دكتور جيكل والسيد هايد”- تحليل نفسي للخير والشر

لمتابعة المقالات الجديدة في علم النفس، الأدب والفن، تابعوني في الفيسبوك على صفحة الصحة النفسية وصفحة Basma’s psychology and art.

هل الإنسان كائن طيب بطبعه أو شرير؟

هذا السؤال لا زال يشغل علم النفس والفلسفة والأدب منذ قرون. في هذا المقال سوف أبحث هذا الموضوع من خلال نظرة تحليلية للرواية الكلاسيكية الشهيرة “دكتور جيكل ومستر هايد”.

سنة 1886 كتب الأديب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون روايته الخيالية دكتور جيكل ومستر هايدالتي تناولت الصراع بين الخير والشر داخل الإنسان, ولاقت اهتماما كبيرا لخوضها في ما يدور داخل النفس البشرية من صراعات بين قوى الخير والشر.

تحكي الرواية قصة الدكتور جيكل، الشخص الناجح والمحترم صاحب المكانة المرموقة في المجتمع. الدكتور جيكل يشعر بصراع شديد بداخله بين قوى الخير والشر ويصبح غير قادر على احتواء القوتين المتناقضتين. على هذا الأساس يقرر جيكل ان يقوم بتجربة علمية تجعله يفصل بين طبيعتيه، ليصبح شخصين: شخص طيب وشخص آخر شرير.

“ولدت لأسرة شديدة الثراء. وكنت مولعا بالعمل الجاد والدراسة، ونعمت بصحبة الأصدقاء. أنبأت كل المؤشرات بحياة واعدة مباركة بالحظ الموفور. كان الجميع على يقين من أنني أسير صوب حياة مهنية عظيمة. وحقا كانت نقيضتي الوحيدة هي طبيعتي المنطلقة أيما انطلاق، وكنت أواجه دائما صعوبة في اخفاء بهجتي بالحياة والظهور بمظهر أكثر نبلا. من وجهة نظر عائلتي أن تظهر مفعما بالحياة ومتحمسا للغاية هو ضرب من ضروب عدم اللياقة. لذا تعلمت أن أخفي سعادتي، فكنت أحيا مع عائلتي بشخصية، وأعيش بيني وبين نفسي بشخصية أخرى. كان هذا حتى منتصف العشرينات من عمري حينما تأملت مليا فيما يدور من حولي وأدركت أنني أعيش حياة مزدوجة. قد يتباهى البعض باكتشافاتهم، غير أنني اعتبرتها أسرارا مخجلة، وأضنيت نفسي في إخفائها عن العالم. بمرور الوقت نجحت في الفصل ما بين جانبي طبيعتي، الجانب الطيب والجانب الشرير، فلم أعد كاذبا بأي شكل من الأشكال نظرا لأن كلا جانبي طبيعتي كانا حقيقيين، فكنت نفسي بالتمام عندا أنخرط في فعل مشين، مثلما كنت نفسي بالتمام عندما أحيا حياة طيبة نقية. تمحورت دراستي العلمية حول هذه الطبيعة المزدوجة للإنسان التي فيها يجمع الإنسان بين الخير والشر…. قطعا يوجد تعليل يفسر وجود الجانبين الطيب والشرير في البشر. اعتقادي القوي كان أن الإنسان ليس واحدا وإنما اثنان. شخصان في إنسان واحد. أثناء أبحاثي وتجاربي أصبحت على قناعة بأنه يمكن فصل هذه الطبيعة المزدوجة، فقلت لنفسي إنه إذا أمكن فصل كل شخصية إلى كيان منفصل ، فستكون الحياة أيسر، فيستطيع الشرير أن يذهب في طريقه والطيب في طريق أخرى، ومن ثم يمكن التمييز بينهما، وعندئذ سينتهي الشك والتشويش، فوجود القوتين المتضادتين في نفس الجسد قد سبب الكثير من الألم بالفعل.”

بعد تقريبا 20 سنة من نشر الرواية، ومن خلال بحثه في النفس البشرية، انتقد فريدريك نيتشه في كتابه “ما وراء الخير والشر” النفاق الاجتماعي الذي يتكلم عنه الدكتور جيكل- ذلك النفاق الذي أجبره على أن يُظهر نفسه وفقا للمعايير الأخلاقية التي وضعها مجتمع منافق يدعي الأخلاق. يتحرك نيتشه في عمله نحو ما وراء الخير والشر متجاوزاً الأخلاقيات التقليدية ومنتقداً إياها نقداً كبيراً، من خلال توضيح التأثير الهدام الذي تتركه في نفس بشرية مزيفة ومحطمة.

يمكن ان نجد الشرح لما حاول الدكتور جيكل القيام به في نظرية فرويد، الأب الأكبر لعلم النفس. يقول فرويد أن الإنسان يلجأ أحيانا لحل التناقض عن طريق تقسيم المشاعر (Splitting) المتناقضة بحيث يوجه الحب نحو شخص واحد، والكره نحو شخص آخر، تماما مثل الأم الحنونة وزوجة الاب الشريرة في قصص الأطفال. بعد ان يتم الفصل، يتم كبت مشاعر الكره والتنصل منها. بالنسبة لفرويد هذا الكبت قد يؤدي لأمراض نفسية عديدة وقد قام بعلاج نساء عانين من الهيستيريا، بسبب محاولتهن الاندماج في مجتمع فيكتوري يدعي المثالية، عن طريق كبت شديد لغرائز العدوانية والجنس.

“وفيما كنت أتسلل عبر الفناء لاحظت أن السماء كانت مرصعة بالنجوم، وخطر لي أنه في خلال عمرها الذي بلغ ملايين السنين لم تنظر إلى كائن مثلي من قبل. أدركت أيضا أنه إذا عثر علي خدمي أتجول في الطرقات، فإنهم سوف يستدعون الشرطة. وفيما نظرت إلى إحدى المرايا الموضوعة في الردهة، رأيت وجها ذابلا ذميما… ومع ذلك لم أشعر بالاشمئزاز، فقد أدركت أن الصورة المنعكسة في المرآة هي لي. فلا يزال هذا الذي أراه هو أنا. وكان رد فعلي تجاه صورتي حينها يختلف عن رد فعل أي شخص آخر. كل إنسان رأى إدوارد هايد انتفض إلى الوراء. أظن أن هذا يرجع إلى أن الناس اعتادوا أن يروا الجانبين الطيب والشرير معا بداخل أي إنسان، الطبيعة المزدوجة التي تحدثت عنها آنفا. على أن إدوارد هايد ليس له مثيل، فهو شر خالص”.

لاحقا، في بداية سنوات ال 1900 ، اشتهر كارل يونغ بنظريته عن أجزاء النفس البشرية. يقول يونغ أن من ضمن أجزاء النفس البشرية هناك “القناع” (The persona) و”الظل” ( The shadow).

كلمة “بيرسونا” استخدمت في العصر الروماني للدلالة على قناع يرتديه الممثل. حسب نظرية يونغ، “القناع” عبارة عن القناع الاجتماعي الذي على كل شخص ارتداؤه من أجل التأقلم في مجتمعه. هذا ما يبدو أن الدكتور جيكل قام به في علاقاته الاجتماعية، حين ارتدى قناع يخفي جزء من حقيقته.

مقابل القناع هناك مفهوم “الظل”، هو ذلك الجزء من الشخصية الذي يتم دفعه إلى أعمق الأماكن المظلمة في اللاوعي. يحصل هذا حين يتعلم الإنسان أن بعض السمات الشخصية، الدوافع، المشاعر والسلوكيات، تعتبر “عيب” وتأتي بردود فعل سلبية من الأسرة والمجتمع ككل. ردود الفعل السلبية هذه تسبب القلق، مما يجعل الشخص ينفي هذه الخصائص “السلبية” إلى لاوعيه. في خلال سنوات من النمو، تتحد هذه الخصائص معا لتكون ذلك الجانب المظلم في الذات الذي يدعى الظل.

بالنسبة ليونغ، التطور النفسي يتم عن طريق دمج الظل في الشخصية والاعتراف بوجوده، فالخير والشر يتواجدان سوية في النفس البشرية ويتوجب الاعتراف بوجود كليهما. هذا الأمر لم يستطع الدكتور جيكل القيام به، فكان مصيره خسارة ذاته.

كي نتأقلم مع المجتمع الذي نعيش فيه علينا أحيانا ان نرتدي القناع ونكون طيبين ولطفاء ومحترمين. غالبا ما نقوم بالمشاركة بطقوس فقط بسبب ضغوط اجتماعية، دون أن نستمتع بها او نؤمن حقا بضرورتها. قد ندفع ثمنا باهظا من صحتنا النفسية حين نكبت ذلك “الظل” الذي في داخلنا، أي النزعة الطبيعية التي تدعونا للتمرد والانتفاض، ولأن نقول “لا أريد!” و “لا أقبل!”.

حياتنا النفسية كثيرا ما تبقى عالقة بين محاولات إزالة القناع والخروج من الظل.

بسمة سعد

أخصائية نفسية علاجية

About Basma Saad

Clinical psychologist and artist

مناقشة

3 آراء حول “رواية “دكتور جيكل والسيد هايد”- تحليل نفسي للخير والشر

  1. قصة جميلة و تحليل نفسي أجمل .. شكرااا

    إعجاب

    Posted by Eli-Georges | 2017/11/29, 11:04 مساءً
  2. شكرًا لكي الدكتوره بسمة
    وكلمه شكرا قليله جدا في حقك
    أتمنى ان تستمري فأنا متابعه لكي
    مع حبي واحترامي

    إعجاب

    Posted by Saadea | 2018/04/17, 12:46 صباحًا
  3. انا المؤمن انا الكافر
    ممكن نظره دينيه شويه لها ان الانسان خلق بين الطبع النقى الملائكى و الشيطان و يقولو هناك ملك على اليمين و شيطان على الشمال و هذا العدل فهو جواه ملاك و شيطان و نفسه فى المنتصف nutral و لكن هو اى طريق يختار و يغذى و يميل الى اى جانب

    إعجاب

    Posted by Sherif | 2020/10/26, 7:37 مساءً

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

اضغط هنا لكي تتسجل للموقع وتحصل على المقالات الجديده مباشرةً لبريدك الالكتروني

انضم مع 91 مشترك

مرحباً

هنا في مدونتي الخاصة أكتب عن الصحة النفسية، ما يدعمها وما يعيقها. أحيانا أكتب من وجهة نظر مهنية، وفي أحيان أخرى أشارك في أفكار واراء شخصية. أعتبر مدونتي مساحتي الخاصة التي تمنحني كامل الحرية الفكرية. اسمي بسمة، وأنا أخصائية نفسية علاجية مع خبرة سنوات طويلة في التشخيص والعلاج النفسي. بالاضافة الى ذلك يشغل الفن والرسم حيزا كبيرا في عالمي النفسي والفكري، وأنا أرسم في الألوان المائية.
%d مدونون معجبون بهذه: