الكثيرون ممن يبلغون أو يقتربون من عمر الثلاثين (خصوصا النساء) يمرون بأزمة إكتئابية ووجودية. هذه الأزمة تترك تساؤلات مؤلمة حول الماضي، الإنجازات أو عدمها، وجودة الإستقرار العاطفي والزوجي والعائلي والمادي.
ماري (“Marie”) هي رواية نشرت سنة 1940 للكاتبة البلجيكية Madeleine Bourdouxhe. تصف الرواية ما يدور في أعماق ماري، امرأة في الثلاثين من عمرها، بعد ان بدأت تمر في ما يشبه أزمة وجودية وإكتئابية لم تعد تشعر فيها بالتواصل مع ذاتها ومع الحياة.
الرواية اكتشفت من جديد في السنوات الأخيرة، لتظهر كرواية عميقة وفلسفية ومثيرة للجدل. سيمون دي بوفوار كانت صديقة مادلين بوردو ومن معجبي أدبها الذي يمتلك عمقا خاصا يتناسب مع الفلسفة الوجودية.
إليكم بعض المقاطع التي ترجمتها من الرواية:
“عندما طوتْ ذراعيها على رمال البحر، دفنتْ رأسها تماماً فيهما ، وفي المعبد الصغير بين ذراعيها المطويتين ، تنفستْ هواء أنفاسها الخاصة . ‘هل أنتِ هناك، ماري؟ نعم، أنا مازلتُ هنا، وحدي تماماً بين ذراعيّ … ماري!’ ”
“ماذا كان رأي النساء الأخريات في ماري؟ لماذا تشعر أنّها مختلفة جداً عنهم؟ ولماذا لم تنجح في أن تصبح حقاً صديقتهم ؟ ربّما الحياة أبسط إذا كان عالمك مثل عالمهم، يقتصر على اختيار ورق الجدران أو أغطية للأريكة لمنزل فاخر، وأهمية وجود خادمة، وحفلات الاستقبال، وحفلات الشاي مع الأصدقاء حيث يتمّ تبادل بعض الأفكار حول أحدث الكتب. إذا كان لديهم طفل، فإنّهم يحبّونه ليس لأنّه من صلبهم بل لأنّه قد أعطى أخيراً بعض الهدف و الأهمية لوجودهم. إنهم يعطون انطباعاً بأنهم سعداء، أو إذا لم يكونوا سعداء فهم يتحدّثون عن السعادة على أنّها غير صالحة للاستعمال وكغرضٍ واضحِ المعالم الذي يجب اكتشافه لتعليقه في الشقّة مثل غصن من الهَدَال. لو كان لماري طفل، كانت ستحبّه بكلّ صلبها وكلّ قلبها، لكنها لا تشعر بالندم ولا بالفرح من حقيقة أنه ليس لديها طفل. انها لا تريد الطفل كهدف، هي لا تحبّ الترف ولا حفلات الاستقبال، هي بالكاد تملك أصدقاءَ ، هي تكره اختيار ورق الجدران، وهي لا تؤمن بوجود السعادة. هل هذا يعني أنّها لا تحبّ شيئاً، ولا تنتظر شيئاً ؟”
“لماذا تشتري الصحيفة؟ ألمعرفة أنّ صراعاً محليّاً أصبح في خطر الانتشار إلى أوروبا، و لتعيش ساعات من الخوف الشديد لتكتشف في صباح اليوم التالي أنّ صحيفة التايمز اللندنيّة قد أعلنتْ أنّ الموقف الدولي أصبح أكثر استقراراً ممّا كان عليه قبل بضعة أشهر، لتسقط بعدها في الألم مرة أخرى لأنّ سفينة ألمانية … الحياة تستمر، تنزلق من بين الأصابع. هناك قتال في الجنوب، وهناك مفاوضات في الشرق، وسوف يبدأ القتال هنا. يضع الناس جميعَ آمالهم في روسيا، ثمّ يشتكون من أنّ البلاد قد تدهورتْ لحالة انصياع … الناس يرمون أنفسهم في أحضان الفاشية، الرجال يقاتلون، والآلاف من العمال العاطلين عن العمل يتضوّرون جوعاً . وماذا يجب أن نشعر؟ التعاطف مع الآخرين؟ ماري تشعر بالنشوة بسبب حالة من الأنانية البرية. قالت في نفسها: المجتمع ؟ لا يهمني أمر المجتمع – فقط الفرد يهمني. لكل واحد فيهم حياته.”
“ليس من الصعب أن تجعل أمَّاً تتحدث عن الماضي. في الوقت الذي تحدثتْ فيه أمُّ ماري وشاركت بقصصها عن ابنتها، كانت تسترجع في قلبها الطفلة التي اعتادت ماري أن تكون، وعندما تنظر إلى هذه الشابة التي في ذراعيها الآن، هي تتحدث عن ماري التي لا تزال غنية بأنواع مختلفة من الحب، دون أن يتملّكها نوعٌ واحدٌ . ماري تدعها تتحدّث : إنها لا تستطيع أن تخبر والدتها انها لم تعد في حاجة إلى مساعدتها باسترجاع الذكريات. هي سمحت لرأسها بالسقوط على كتف أمّها ليرتاح هناك، لتكون تلك اللحظة خاصّة بأمّها فقط . كانت تلك لحظة خارقة أعطتْ فيها ماري نفسها مرّة أخرى لوالدتها.”
“كان زوجَها . هي لم تتوقّعْ فرحاً ولا حزناً من حبّها له. لكنّها أحبّتهُ كنوعٍ من الصداقة التي تورّط فيها الجسد أيضاً. لقد تاقتْ لسعادته في معناها الروحي والمادي. أحبّته كحبِّ أخٍ غالٍ . لقد كان صديقاً : وجهَهُ و ذراعيه و ساقيه ، وعروقه، ودمه، وكلّ ما جعله يعيش ثميناً جداً بالنسبة لها لدرجة تشكيله مصدراً محتملاً للحزن. زوجها : هذه العبارة يمكن أيضاً أن تعني التسمّم، الرغبة، الحبٍ ، أمر ٌيمكن أن يكون جميلاً بشكل لا نهائيّ . لكنه أيضاً ، قد يعني ضمناً عدم المبالاة. كان أسهلَ لو كان الأمرُ أحدَ الاحتمالين : لكنّه كان لا هذا ولا ذاك. كان شيئاً آخرَ ، للأفضل أو للأسوأ – هكذا كان الأمر.”
“شعرتْ ماري بالغضب الصامت يتصاعد من أعماق ذاتها. الانتحار في مواجهة المشاكل، أو الانتحار في مواجهة محنة كبيرة … رفض النضال، رفض الوحدة ، ورفض المعاناة : إنّهُ رفضٌ ، بشكل تام ! عندما تعاني النساء، عندما يتأذّيْنَ ، ماذا يفعلنَ ؟ يوقفْنَ حياتهنّ هذا ما يفعلْنَه . يقمْنَ برحلةٍ جبانةٍ نحوَ السلام والفناء … أليس هناك أيّ شيء ليوقفهن؟ ميزة منفردة ومستقلة تجعل كلّ شخص فريد من نوعه و تمنع الناس من قتل أنفسهم ؟ ميزة ثمينة جداً التي ينبغي أن يستمر الشخص بحملها، كما يحمل الكاهن وعاء البخور؟”
“أنت ترين فقط ما يمكن أن تفهمينه. وأنت تفهمين فقط ما تحبين. أولا عليك أن تعطي نفسك، أن تلتزمي لنفسك، ثم سوف تحصلين على شيء ما في المقابل. لكنك دائما في حالة انتظار، في انتظار حدوث شيء ما. أنت لا تعرفين ما هو، هو مجرد نوع غامض من السعادة التي قد يأتي إليك فجأة ويطغى عليك. ولأن لا شيء يحصل، أصبحت يائسة وقررتي أنك تريدين الموت. ولكن كل شيء كان هناك في انتظارك. الأمر بيدك بأن تحبي، والقرار لك بأن تعيشي. أن تعيشي الحياة بكل إمكانياتها هو أن تعيشي ذاتك بكل إمكانياتها.”
“يجب عليك الالتزام، حتى اللحظة الأخيرة يجب النضال ضد العدوّ : ضدّ الموت . يجب أن تناضل حتى اللحظة التي يأخذك فيها الموت بالقوة و أنت مضطرّ أن تستسلم ! الجريمة هي الاستسلام ، يجب ألا تتنازلَ ؛ يجب أن تدعم جانب الحياة “.
بسمة سعد
أخصائية نفسية علاجية
للمزيد من المقالات تابعوني على صفحة الفيسبوك أو إقرأوا المزيد في الموقع.
جميل جداً
شكراً
إعجابإعجاب
شكرا جزيلا 🙂
إعجابإعجاب