***آراء في الحرية الجنسية والصحة النفسية***
يلزم التوضيح في البداية، أني لا أناقش هنا موضوع الزواج أو عدمه، ولا أناقش ممارسة الجنس بين شخصين متحابين يتواجدان في علاقة. بالاضافة الى ذلك أنا لا أناقش الموضوع من وجهة نظر دينية أو اجتماعية.
كي أوضح الموضوع أكثر، سوف أطرحه على شكل سؤال: شخصان غريبان التقيا في الشارع ولا تربطهما اي معرفة مسبقة او علاقة، قررا ممارسة الجنس لهدف المتعة فقط، ولم تكن لديهما نية الاستمرار في علاقة. مما لا شك فيه أن قرارهم هذا هو حريتهم الشخصية وأنا لا أنظر اليهم الان من باب الانتقاد والاستنكار، فحياتهم هي ملكهم ولهم حق الاختيار والقرار. لكني أسأل هذا السؤال رغبة مني في تحليل علمي ومنطقي لأمر يستدعي الانتباه والتفكير:
هل عمل كهذا يدل على صحة نفسية؟ هل لعمل كهذا تأثير على صحتهم النفسية؟
في أطروحته “قلق في الحضارة” بحث فرويد تطور البشرية وتخصص في تطور النفس البشرية. فرويد يقول أن تطور الحضارة بدأ حين نجح الانسان بالسيطرة على غرائز العنف والجنس. فرويد كان كعادته صريحا وواقعيا، وقال أن الانسان الحضاري ليس بالضرورة سعيدا بتخليه عن غرائزه والنسبة الأكبر من البشر يقومون بهذا مضطرين بسبب الدين والقانون الذين يحكمانهم. يقول فرويد أن الالتزام بالقوانين في تطور البشرية بدأ من المبدأ البسيط “لن اسبب الأذى لجاري كي لا يسبب لي الأذى، وبالتالي كبت غرائزي هو أمر يحميني”. ما قاله فرويد أن الحضارة بدأت حين كبت الانسان غريزته لأول مرة، وهو يصل الى أبعد حدود الوصف الدقيق. كلنا نعلم أن للنار كان اعظم التأثيرات على التطور في تزويدها للدفء للبشر، لكن يقول فرويد أن الذكر القديم كان كلما رأى نارا مشتعلة لم يستطع كبح غريزته وقهرها عن طريق قضاء حاجته عليها. بالتالي، فإن تطور الحضارة بدأ حين سيطر هذا الذكر على غريزته وحافظ على النار ليكتشفها كمصدر دفء. لاحقا كي يضمن عدم فشله في الحفاظ على النار خرج من كهفه ليصطاد وأبقى امرأته في البيت لتحافظ على النار بما أن تركيبتها الجسدية لا تمكنها من قضاء حاجتها على تلك النار. للوهلة الأولى يبدو الأمر مسليا ومضحكا، لكن مما لا شك فيه أن معناه يشرح أن كبت الغريزة عند البشر هو المسبب في تطور الحضارة، لأنه يفتح المجال للخيال والابداع ولفعاليات التسامي الحضارية. بعد أن نجح الانسان في كبت غرائزه يرى فرويد أنه كان عليه أن يجد طرقا يستطيع فيها التسامي عن هذه الغرائز، مما جعله يوجه تلك الطاقات لفعاليات حضارية كتحسين بيئته وتطوير معيشته. يشدد فرويد أن الانسان الحضاري فقد جزءا كبيرا من سعادته بتخليه عن غرائزه، وهو يدفع ثمنا نفسيا غاليا، خصوصا من يفتقد القدرة على استعمال التدابير الحضارية الملطفة كالعلم والفن والمواهب.
ما يراه فرويد هو أن الحضارة هي صراع بين تحرير الغريزة وكبتها، صراع أبدي في داخل كل نفس بشرية. فكرة مثيرة للاهتمام في هذا السياق هي الفرق بين المجتمع الشرقي والغربي. فبالوقت الذي فيه كبت المجتمع الغربي غريزة العنف بقوانين ملزمة، سمح لنفسه بتحرير الغريزة الجنسية (مع أنه برغم تلك الحرية وبعكس الفكرة السائدة أغلب العلاقات الجنسية هناك هي ضمن علاقة ممتدة وحميمية). في المقابل المجتمع الشرقي الذي يضع قيودا صارمة على غريزة الجنس، يعاني من فقدان القدرة على التحكم بغريزة العنف- نقطة تستحق التفكير والتعمق.
اذا نظرنا لنظرة فرويد الى الغريزة، هل نستطيع أن نقول أن ما وصفته سابقا على انه “حرية جنسية” هو أمر يعيق تطور الحضارة لان الغريزة هي أمر يحتاج الى ضوابط؟ هل يحتاج الانسان الحضاري أن يمتلك مسؤولية ضبط غريزته الجنسية كي يستطيع التسامي عن الغريزة ويترك مجالا لخياله وإبداعه؟
إريك فروم في كتابه “فن الحب” يعود للأصول البدائية النفسية للحب. يقول فروم أن الانسان يصارع مدى حياته شعوره بالوحدة والغربة، ولديه في داخله أمل ودافع كبير للعودة للوضع البدائي في “الامتزاج مع الأم”. كبالغ يحاول الانسان الهروب من وحدته وعزلته بشتى الطرق. في الوضع “الطبيعي” يقضي الانسان حياته في محاولة “الامتثال” او التشبه المطلق بالآخر كي لا يشعر انه منفصلا ووحيدا. ومن هنا تأتي رغبة الانتماء للمجموعة، بما فيها من سلبيات. الوضع الأكثر “صحة” حسب رأي فروم هو الحب الذي ينتج من علاقة صحية وواعية وحميمية بين شخصين، وفي كتابه يعتبر الحب “فن” ويناقش مبادئه. من جهة أخرى يقول فروم أن الانسان يلجأ أحيانا لوسائل الهروب. مثلا هو يعتبر السكر والمخدرات كوسائل تخدر الانسان عن وحدته وإنفصاله. وهو يدرج تحت هذه الخانة أيضا الجنس خارج علاقة لهدف المتعة فقط. هو يقول “عند عديد من الأفراد حيث لا يتم التخلص من الإنفصال بطرق أخرى، يؤدي البحث عن الهزة الجماعية وظيفة يجعلها لا تختلف عن الادمان على المسكرات والمخدرات. فهو يصبح محاولة يائسة للهرب من القلق المتولد من الانفصال، ويفضي الى شعور متزايد بالانفصال نظرا لأن الفعل الجنسي بدون حب لا يقيم جسورا على الاطلاق فوق الهوة بين كائنين انسانيين إلا لبضع لحظات”. (فن الحب، ص.22).
في كتابه “إكتشاف الكينونة” يقول المحلل النفسي “رولو مي” أنه بما أن ما يفرق الإنسان عن الحيوان هو الوعي الذاتي (self-consciousness) فنحن نتوقع منه أن تكون تركيبته النفسية مختلفة تماما عن الحيوان. فحين يشترك الإنسان في عمل جنسي لا يمكن ان لا يكون متأثرا بشريكه (افكاره عنه الناتجة من الواقع أو الخيال أو الخيال المكبوت). حين لا يتأثر الشخص بشريكه فهذا على الأغلب جنس قهري أو دعارة الذي يتم فيه حظر ومنع تام أو تشويه للوعي الذاتي. (The discovery of being, page 21).
الجنس هو أكثر النقاط حميمية التي يمكن أن يصل اليها شخصان. هي لحظة الاندماج التي تسقط فيها ليس فقط الحدود الجسدية بل الحدود النفسية. كبشر متطورون أصبحنا نملك عالما لا حدود له من المشاعر والافكار التي أغلبها لا تصل إدراكنا وتبقى في اللاوعي. هل يمكن أن نعتبر فعلا بهذه الدرجة من الحميمية كمجرد تفريغ للطاقات الجنسية لا يوجد له أي تأثير نفسي؟ الشخصان اللذان تكلمنا عنهما سابقا ربما سوف يستطيعان حصر تأثير الحميمية التي حصلت بينهم وابقائها في منطقة اللاوعي، لكن أليس بمقدور انهيار حدود الانفصال بين شخصين ان تغير ذلك اللاوعي للأبد؟
بالطبع كل تعميم خاطئ ولا يمكن حصر البشر جميعا تحت نظرية واحدة، لكننا نحتاج ان ندرس وندرك ما يدور في عالمنا الداخلي كنوع من الوقاية، أو حتى كحب للاستطلاع.
للمزيد من مقالات علم النفس تابعوني في صفحة الفيسبوك.
بسمة
أخصائية نفسية
مناقشة
لا توجد تعليقات حتى الآن.