أنت تقرأ...
كتب وروايات, أنا ونفسي

السيطرة والاستقلالية والاعتراف المتبادل

جيسيكا بينجامين هي باحثة ومحللة نفسية مناصرة لحقوق المرأة اكتسبت شهرة كبيرة من بحثها موضوع المرأة والفيمينيزم. في كتابها “قيود الحب” (The bonds of love) تناقش بينجامين موضوع السيطرة والفيمينيزم من وجهة نظر علم النفس التحليلي. في هذا المقال قمت بكتابة أفكارها حول موضوع السيطرة والاستقلالية والاعتراف المتبادل. في المستقبل سوف اقوم بكتابة الجزء الثاني من المقال الذي سوف يكون حول المرأة ونضوجها ككيان مستقل امام ضغوط خارجية اجتماعية وداخلية نفسية وتطورية.

التعبير عن الذات والاعتراف بوجود الآخر هما قطبان في توازن هش. هذا التوازن هو جزء لا يتجزأ من ما يسمى الاستقلالية او  “الانفرادية” (Defferentiation)، أي نمو الانسان ليصبح شخصا بالغا وواعيا لاختلافه عن الآخرين. بالرغم من ضرورته، من الصعب الحصول على هذا التوازن او الوصول للانفرادية والاستقلالية.

حاجتي بإعتراف الآخر بوجودي وحقي بأن أكون كيانا منفردا قد تتصادم مع ما يراه الآخر على أنه حقه في التواجد وفي أن يكون كيانا منفردا، وهذا يظهر خصوصا في لحظات الصراع. اعتراف الآخر بوجودي هي ردة فعله التي تعطي معنى لأحاسيسي ونواياي وتصرفاتي. هذا الإعتراف يسمح لي بأن أكون فعالا وأن أعبر عن تميزي بشكل فعلي. لكن يمكنني الحصول على اعتراف الآخر بي فقط اذا قمت أنا ايضا بالاعتراف بوجوده كشخص منفرد ومستقل.
هيغل أوضح ان الصراع من أجل الحصول على “إعتراف الآخر بي” هو لب علاقات السيطرة. ما ناقشه هيغل بواسطة مصطلحات فلسفية يمكن مناقشته ايضا بمصطلحات تتعلق بالتطور النفسي للطفل، وبآلية اعتراف الآخر بوجود الذات في أقدم وأول هذه اللقاءات بين الطفل والمربين. ان عدم القدرة على إحتواء التناقض والصراع في العلاقات بين الطفل ووالديه يمكن أن تسبب (وفي أغلب الحالات تنجح بأن تسبب) بأن يتحول الاعتراف المتبادل بوجود الآخر لعلاقة سيطرة ورضوخ.

نحن نفترض أن الحياة الواعية تبدأ بالاعتراف بالانفرادية بين الأنا والآخر وتقبلها، لكن امور عدة قد تقف عثرة في طريق الحصول على هذا الوعي. وينيكوت الذي بحث بشكل مباشر قضية الاعتراف، قال أن الذات في بداية حياتها كطفل تكون مرتبطة كليا بالآخر ولا تعتبر محسوسة وخارجية ومستقلة. لكن تأتي مرحلة في التطور يتوجب فيها على الذات أن تستبدل هذه النظرة بأخرى ترى فيها الآخر ككيان خارجي مستقل.
لكي تفعل هذا، على الذات أن ترى الآخر على أنه موجود خارج نفسها ك”كيان قائم بحد ذاته”، وتقوم بالتفرقة بين هذا الآخر وبين احساسها الداخلي تجاهه أو ما تقوم ب”إسقاطه” عليه.

عملية الاعتراف المتبادل تبدأ في سنوات الطفل الأولى، حين ينتج صراع بين رغبة الطفل ورغبة غير مشابهة للأم. في تلك المرحلة تواجه الأم عنف الطفل تجاهها ورفضه لتخليه عن وهمه بأنه هو المسيطر “كلي القدرة”. التواصل بينهم سوف يكون عبارة عن محاولة الطفل ل”تدمير” امه والسيطرة عليها، مقابل محاولة الأم الصمود في وجه عنف طفلها ووضع الحدود التربوية له. جزء كبير من النجاح في تعدي هذه المرحلة يتعلق بمدى نضوج الأم وتطورها الذاتي كشخص مستقل. فقط الأم التي تشعر أنه يحق لها ان تكون شخص قائم بحد ذاته يمكن أن يراها طفلها على انها شخص قائم بحد ذاته. وفقط أم كهذه يمكنها أن ترى العدوانية والقلق الذين يرافقون بالضرورة تطوير استقلالية الطفل، وتستطيع ان تضع لهم الحدود. فقط شخص (وفي أغلب الأحيان هذا الشخص هو إمرأة/ أم) نجح بأن يصل للانفرادية والذاتية في تطور شخصيته يمكنه الصمود في وجه عدوانية الطفل الطبيعية وبهذا فهو يسمح لهذا الطفل بتكوين تمايزه وشخصيته المنفردة. على الأم أن لا تسمح بأن “يدمرها” الطفل، لكن عليها أيضا أن لا “تدمر” طفلها عن طريق عدم اعطاء اي مكان لرغباته، لأنها بذلك ايضا تعبر عن نفس الفكرة بأن في كل علاقة مكان لشخص واحد ليكون مسيطرا امام آخر قد تم تدميره. فقط بعد صمود متوازن ولين للأم يمكن للطفل أن ينتقل من مملكة الخضوع والانتقام لمملكة الاحترام المتبادل.

في صراع الاعتراف في مرحلة الطفولة، على الذات (الطفل) أن “تراهن بحياتها” وأن تصارع لكي تدمر الآخر (الأم/ الأب)- لكن الويل لها ان نجحت. لانها لو نجحت ودمرت الآخر، وأصبح غير موجودا لأنه لم يصمد، حينها لن يبقى امام الذات من يعترف بها. الشرط الأولي للحصول على الاعتراف المشترك هو قدرة الآخر (الأم/الأب) على الصمود بوجه تجارب تدمير الذات (الطفل) له. حين تحاول الذات تدمير الآخر، من الضروري أن يظهر هذا الآخر بوادر تأثره كي تشعر الذات بوجودها وتأثيرها، لكن من الضروري ايضا أن لا يتدمر كي تعترف الذات به وتقر بوجوده. الذات سوف تفهم انها ان دمرت الآخر بشكل تام وسيطرت عليه عن طريق تدمير هويته ورغباته، فانها قد تكون دمرت نفسها أيضا، لانه لن يبقى هناك من يشعرها بوجودها او من توجه رغباتها اليه. من هنا نرى أن الرغبة بالاعتراف تعيد الذات الى مكان تعلقي بالآخر، لانها تحتاجه للشعور بكيانها. من هذا المكان التعلقي بالآخر قد يحدث خلل  يحول قضية الاعتراف الى قضية سيطرة. في هذا الخلل تفضل الذات الحفاظ على المكان الطفولي والبدائي ال”كلي القدرة” ويحصل عدم توازن بين الاصرار على الذات وبين الحصول على الاعتراف من الآخر.

بسبب الخوف الدائم من أن التعلقية بالآخر قد تهدد استقلالية الذات، ومن أن الاعتراف بالآخر هو على حساب الذات، يصبح الصراع بين التعلقية والاستقلالية فوق قدرة الاحتمال، وتتخلى النفس البشرية عن التوازن المتناقض لتحوله الى تقطب. هذا التقطب يفتح الطريق بوجه علاقات يميزها السيطرة والرضوخ، لأن الدمج بين التناقضات لم يعد ممكنا. عدم القدرة على احتمال التوتر -الناجم من التناقض بين الاصرار على انفرادية الذات وبين التنازل لهدف الحصول على اعتراف الآخر- وعدم القدرة على الحفاظ على هذا التوتر والعيش في ظله بشكل دائم، هما المصدر لتكوين علاقات السيطرة.

image

بداية السيطرة هي محاولة انكار التعلقية. لا يمكن لأي شخص الهروب من تعلقه بالآخرين ومن رغبته بإعترافهم بوجوده. الذات تحتاج لفرصة كي تؤثر على الآخر وتحظى بإعتراف بوجودها. كي يحصل على فرصته بأن يكون قائما بحد ذاته، على الانسان ان يكون قائما وموجودا من أجل غيره أيضا. يبدو أنه لا يمكن الهروب من هذه التعلقية. لو دمرت الذات الآخر لن تجد من يعترف بوجودها، لأنها ان لم تعطيه حق الوعي الخاص والمستقل، سوف تندمج مع كيان ميت. بالمقابل، اذا رفض الآخر الاعتراف بالذات فلن يكون لأفعال هذه الذات أي معنى. في تلك الحالة ترفع الآخر عن هذه الذات هو كبير لدرجة انه لا يمكن لأي شيء تفعله أن يغير تعامله معها، وبالتالي لا يمكنها سوى أن ترضخ له. في تلك الحالة رغبات الذات واشواقها لا يجدون منفسا الا عن طريق الخضوع المازوخي.

يمكن ان نسمي هذا منطق السيطرة: ان سيطرت الذات على الآخر سيطرة تامة الآخر يفقد وجوده، واذا سيطر الآخر سيطرة تامة على الذات، فإنها سوف تفقد وجودها. الشرط للحصول على الكيان المستقل هو الاعتراف المتبادل. الاستقلالية الحقيقية تعني الحفاظ على التوتر الدائم بين الاصرار على الذات والاعتراف بالآخر، بينما علاقات السيطرة السادية-المازوخية هي نتيجة فشل ورفض الحفاظ على هذا التوتر. الاعتراف المتبادل معناه أن الذات توافق على أن الآخرين يملكون استقلاليتهم، وذلك على رغم التشابه بينهم في المشاعر والرغبات. تعويض الذات عن فقدانها لسيطرتها هو متعتها وراحتها الناجمة من المشاركة في علاقة ودية تحصل فيها على الاعتراف بوجودها.

المصدر:

Benjamin, J. (1988). The bonds of love: Psychoanalysis, feminism and the problem of domination. New York: Pantheon.

للمزيد من المقالات في علم النفس تابعوني في صفحة الفيسبوك.

بسمة سعد
اخصائية نفسية علاجية

About Basma Saad

Clinical psychologist and artist

مناقشة

رأيان حول “السيطرة والاستقلالية والاعتراف المتبادل

  1. جميل،
    باعتقادي ان قبل ان تستطيع ان تعترف بالذات، عليك ان تكتشف هذه الذات، وقد يكون اكتشاف الذات في شخص اخر تكتشف فيه ذاتك.

    إعجاب

    Posted by محمد | 2015/03/10, 11:08 مساءً

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

اضغط هنا لكي تتسجل للموقع وتحصل على المقالات الجديده مباشرةً لبريدك الالكتروني

انضم مع 91 مشترك

مرحباً

هنا في مدونتي الخاصة أكتب عن الصحة النفسية، ما يدعمها وما يعيقها. أحيانا أكتب من وجهة نظر مهنية، وفي أحيان أخرى أشارك في أفكار واراء شخصية. أعتبر مدونتي مساحتي الخاصة التي تمنحني كامل الحرية الفكرية. اسمي بسمة، وأنا أخصائية نفسية علاجية مع خبرة سنوات طويلة في التشخيص والعلاج النفسي. بالاضافة الى ذلك يشغل الفن والرسم حيزا كبيرا في عالمي النفسي والفكري، وأنا أرسم في الألوان المائية.
%d مدونون معجبون بهذه: