هل هناك خيرٌ مطلق أو شرٌ مطلق؟ هل هناك إنسانٌ بداخله يوجد فقط شر وإنسان بداخله فقط خير؟ كيف نستطيع فهم نوايا الشخص الذي أمامنا بطريقة صحيحة دون أن نؤذيه أو يؤذينا، ودون أن نمتنع كلياً عن العلاقة معه؟
هذا سؤال معقد وله تأثير على مجالات عدة منها قدرتنا على تأسيس علاقة صحية مبنية على الثقة مع الغير.
لنعد برهةً إلى الطفولة كي نحاول أن نفهم كيف يبدأ الإدراك الأولي للخير والشر.
الرضيع لحظة ولادته يكون ضعيفاً فاقد السيطرة وعاجز كلياً عن تزويد نفسه بما يحتاج من احتياجات أساسية وحماية. هو يتكل كلياً على غيره (في أغلب الحالات الأم) كي يزود له كل هذه الاحتياجات. بالإضافة إلى ذلك يكون الرضيع في هذه المرحلة كتلة هائجة من الاندفاعات والغرائز البيولوجية التي لا يسطيع أن يفهمها أو أن يعطيها معناً كما يفعل الإنسان البالغ. مثلاً، إن كان الرضيع جائعاً فإنه يبكي بشدة ويشعر بفقدان سيطرة كامل على جميع أعضاء جسمه، ولكنه لا يعلم أنه جائع لأنه غير قادر على إعطاء تفسير ومعنى لما يشعر في جسده. يعيش الرضيع فهذه اللحظات وضع نفسي صعب جداً ولكي يساعد نفسه يستعمل آلية حماية نفسية بدائية تسمى “ألفصل” (Split). بواسطة هذه الآلية يقسم الرضيع عالمه إلى أزواج متقاطبة: الخير والشر، المتعة واللا-متعة، الأمان والخطر. هكذا مثلاً حين يجوع فهو يبكي بشدة وليست لديه القدرة على الصبر والإنتظار والثقة بمجيء المساعدة عن قريب، لأنه بالنسبة له هو موجود الآن في خطر يهدد كيانه الجسدي. لحين مجيء المساعدة يوهم الرضيع نفسه أن ما يحصل له لا ينبع من شيءٍ ما في داخله إنما من خارجه الذي يحوي فقط شر مطلق. في نفس الرضيع غير المتطورة يمكن التواجد في كل لحظة بمستوى عاطفي وحيد، إما الخير أو الشر، لأنها غير واعية بالقدر الكافي لتفكير مركب أكثر يدمج بين صفات خيرة وصفات شريرة في نفس الكيان. من خلال العلاقة مع الأم التي تزود الرضيع بالعناية والأمان والمعنى الكلامي لشعوره الجسدي يكتسب الرضيع بالتدريج القدرة على فهم نفسه وفهم غيره، ويدمج بين الخير والشر في نفسه وفي من حوله. إذاً، الشرط الأساسي لوصول مرحلة الدمج هو حصول الإنسان في بداية حياته على علاقة جيدة بالقدر الكافي تزوده بالعناية الجسدية والنفسية.
كيف يشعر الشخص البالغ الذي لم يصل بنجاح لمرحلة الدمج؟ يشعر هذا الشخص في كثيرٍ من الأحيان بأنه مطارد وبأن من حوله على الأغلب شرير ويود أن يؤذيه، وهذا يظهر في المميزات التالية:
- يشعر بالقلق إزاء الآخرين
- لديه القليل من العلاقات القريبة لأنه لا يشعر بالثقة تجاه الآخرين.
- يجد صعوبة في أن يكون ودود ومنفتح.
- يشعر بالقلق إزاء توقعات وتقييمات الآخرين.
- منعزل ومحبط في العلاقات الشخصية وليس على استعداد لتقديم تنازلات مهمة من أجل الحفاظ على العلاقات مع الأخرين.
- غير متقبل لنفسه ويتعامل بالإنتقاد أيضاً تجاه نفسه.
أما الشخص البالغ الذي نجح بالوصول إلى مرحلة الدمج فقد وصل إلى مرحلة يستطيع بها تكوين رقابة على الخير والشر في نفسه وفي غيره، فإنه قادر على تكوين علاقات إجتماعية صحية يؤمن بها بتواجد الخير في الغير وبقدرته وبضرورة حماية نفسه من الشر إذا واجهه أيضاً. هذا الشخص يؤمن أيضاً بوجود الخير والشر في داخله، فهو يحاول أن يتعامل بالخير دائماً، ولكن إن هفا مرةً فيمكنه الإعتذار وتصحيح العلاقة مع الأخر، وبالمقابل مسامحة نفسه. هذا الإنسان ينعم بقدرٍ كافٍ من الهدوء والرفاه النفسي الذي يمكنه من العمل والحب والإبداع.
تحياتي,
بسمة
متخصصه في علم النفس العلاجي.
Reference:
Ogden, T. (1990). The matrix of the mind: Object relations and the psychoanalytic dialogue. Lanham, MD: Aronson.
مرحبا بسمة
موضوع جميل جدا أمتعني فعلا وخصوصا بأنني لم أضطلع مسبقا على هذا المجال الا في بعض كتب المعلم فرويد “وطبعا عقدني” … لكن الأجمل أن نعيش حتى ولو للحظات أثناء قراءتنا “دور البيبي الكتكوت” وكيف يتم بناء شخصيته ما بين الخير والشر.
ضحكت كثيرا اثناء تخيلي لبيبي شررريييير يريد فقط ان يتسلى على أمه المسكينة وهي لا تعلم. 😉
إعجابإعجاب